خرجت صفية بنت ميمونة بنت عبد الملك
الشيباني من مدينة (مرو) وهي تحمل في بطنها جنينًا، وما إن وصلت إلى بغداد
حتى ولدت (أحمد بن حنبل) في شهر ربيع الأول سنة 164هـ.
كان والده قائدًا
في جيش خراسان، أما جده فكان واليًا للأمويين في بلدة تسمى (سرخس) تابعة
لبلاد خراسان، وحين بلغ أحمد من العمر ثلاث سنوات توفي
والده، فنشأ
يتيمًا، تكفله أمه وترعاه، وتقوم على تربيته والعناية به، وعاش أحمد عيشة
فقيرة، فلم يترك له والده غير منزل ضيق، مما دفعه إلى العمل وهو طفل
صغير،
فكان يلتقط بقايا الزروع من الحقول بعد استئذان أهلها، وينسج الثياب
ويبيعها، ويضطر في بعض الأوقات أن يؤجر نفسه ليحمل أمتعة الناس في
الطريق، وكان ذلك عنده أفضل من أن يمد يده إلى غيره.
حفظ
أحمد القرآن الكريم، ولما بلغ أربع عشرة سنة، درس اللغة العربية، وتعلم
الكتابة، وكان يحب العلم كثيرًا حتى إن أمه كانت تخاف عليه من التعب
والمجهود الكبير الذي يبذله في التعلم، وقد حدث ذات يوم أنه أراد أن يخرج
للمكان الذي يتعلم فيه الصبية قبل طلوع الفجر، فجذبته أمه من ثوبه، وقالت
له: يا أحمد انتظر حتى يستيقظ الناس.
ومضت الأيام حتى بلغ أحمد الخامسة
عشرة من عمره فأراد أن يتعلم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من
كبار العلماء والشيوخ، فلم يترك شيخًا في بغداد إلا وقد استفاد منه، ومن
شيوخه: أبو يوسف، وهشيم بن مشير.
وفكَّر أحمد أن يطوف ببلاد المسلمين
ليلتقي بكبار علمائها وشيوخها لينقل عنهم الأحاديث التي حفظوها، فزار
الكوفة والبصرة، ومكة، والمدينة، واليمن، والشام والعراق وفارس وغيرها من
بلاد الإسلام، فكان في رحلاته إذا لم يجد دابة
يركبها يمشي حتى تتشقق
قدماه ليلتقي بكبار العلماء في هذه البلاد، وظل أحمد طيلة حياته ينتقل من
بلد إلى آخر، ليتعلم الحديث حتى أصبح من كبار العلماء.
سأله أحد أصحابه
ذات يوم: إلى متى تستمر في طلب العلم، وقد أصبحت إمامًا للمسلمين وعالمًا
كبيرًا؟! فقال له: (مع المحبرة إلى المقبرة) ومعنى ذلك أنه سيستمر في طلب
العلم إلى أن يموت ويدخل القبر، ولم يكن في عصره أحد أحفظ منه لحديث رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- حتى سَمَّوْه (إمام السنة وفقيه المحدثين)
وقالوا: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث!! شملت المكرر من الحديث والآثار، وفتوى
التابعين ونحو ذلك.
وبعد أن تعلم الإمام أحمد بن حنبل ما تعلم، وحفظ ما
حفظ من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس في المسجد الجامع
ببغداد سنة (24هـ) وعمره أربعون سنة، ليعلم الناس أمور دينهم؛ فأقبل الناس
على درسه إقبالا عظيمًا، فكانوا يذهبون إلى المسجد في الصباح الباكر
ليتخذوا لهم مكانًا يجلسون فيه.
وكان أغلى شيء عند الإمام أحمد بن حنبل
ما جمعه من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لذلك كان يكتبه في أوراق
يحفظها في مكان أمين، وقد حدث ذات يوم أن سرق لص منزله، فأخذ ملابسه وكل ما
في بيته، فلما جاء الإمام أحمد إلى البيت، لم يسأل عن شيء إلا عن الأوراق
التي يكتب فيها أحاديث رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ولما وجدها اطمأن قلبه ولم يحزن على ما سرق منه.
ولم
يكن الإمام أحمد بن حنبل مجرد حافظ لأحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بل كان يعمل بما في هذه الأحاديث، فيقول عن نفسه: ما كتبتُ حديثًا إلا وقد
عملتُ به، وكان الإمام أحمد زاهدًا في الدنيا، يرضى بالقليل، فقد كان كثير
العبادة والذكر لله.
وقد تعرض الإمام أحمد -رضي الله عنه- للتعذيب
والأذى بسبب شجاعته من مواجهة الفتن والبدع التي حدثت في زمانه، تلك الفتن
التي تعرض من أجلها للضرب والسجن في عهد الخليفة المعتصم، فكان يُضرب
بالسياط، حتى أغمي عليه عدة مرات، ودخل السجن وظل فيه عامين ونصف، ثم خرج
منه مريضًا يشتكي من الجراح، وظل في منزله بعض الوقت؛ حتى شفي وعاد إلى
درسه، ولما تولى الخليفة (الواثق) الخلافة لم يتعرض الإمام أحمد للإيذاء،
لكنه منعه من الاجتماع بالناس، فظل معزولاً عنهم، حتى مات الخليفة (الواثق)
وتولى (المتوكل) الخلافة الذي عامل الإمام أحمد معاملة حسنة وعرض عليه
المال، فرفضه، لكنه ألح عليه أن يأخذه، فتصدق به كله على الفقراء.
ورغم
انشغال الإمام أحمد الشديد بالعلم وضيق وقته فإنه كان شديد الاهتمام
بمظهره، فقد كان من أنظف الناس بدنًا، وأنقاهم ثوبًا، شديد الاهتمام بتهذيب
شعر رأسه، وكان الإمام أحمد يميل إلى الفقراء، ويقربهم منه في مجلسه، وكان
حليمًا، كثير التواضع تعلوه السكينة والوقار، وكان إذا جلس في مجلسه بعد
العصر لا يتكلم حتى يُسأل، كما كان -رضي الله عنه- شديد الحياء، كريم
الأخلاق، سخيًّا، وكان مع لينه شديد الغضب لله.
والإمام أحمد مؤسس
المذهب الحنبلي أحد المذاهب الفقهية الأربعة، وقد ترك الإمام أحمد كتبًا
كثيرة منها: (المسند) وهو أكبر كتبه وأهمها بل هو أكبر دواوين السنة
النبوية، إذ يحتوي على أربعين ألف حديث، وكتاب (الزهد) و(الناسخ
والمنسوخ).
ومرض
الإمام أحمد -رضي الله عنه- واشتد عليه المرض يوم خميس، فتوضأ، فلما كانت
ليلة الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 241هـ، وفي بغداد صعدت روحه
إلى بارئها، فحزن عليه المسلمون حزنًا شديدًا، وصاح الناس، وعلا
بكاؤهم،
حتى كأن الدنيا قد ارتجت، وامتلأت السكك والشوارع، وأخرجت الجنازة بعد
انصراف الناس من صلاة الجمعة، وشيعه ما يقرب من ست مائة ألف إنسان،
بالإضافة إلى الذين صعدوا إلى أسطح المنازل ليلقوا نظرة الوداع الأخيرة على
الإمام أحمد بن حنبل.